...

سيد درويش يقذف مكتب مدير معهد الموسيقى بالقهوة منذ 100عام

 

ذات يوم فى مساء 31 ديسمبر 1922 قام الشيخ سيد درويش بقذف مائدة مدير معهد الموسيقي الشرقي بفنجان القهوة ثائرا وقائلا: “أنا لا أقلد أحد أنتم تعيشون في الماضي”

كان شارع عماد الدين يموج بالزحام والأنوار وبأصوات يختلط فيها الزعيق والغناء والهتاف وعزف الموسيقي مساء 31 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1922، وفقا للكاتب الشاعر كامل الشناوي في كتابه “زعماء وفنانون وأدباء” في وصفه لهذا المكان، الذي يقول عنه الكاتب والمؤلف المسرحي ألفريد فرج في كتابه “شارع عماد الدين حكايات الفن والنجوم” :”كان شارع عماد الدين شارع الفن في القرن العشرين، فيه غنى محمد عبدالوهاب وأم كلثوم، وأضاء مسرح رمسيس يوسف وهبي ومسرح الريحاني، والمسرح الغنائي للفنانة ملك و مسرح علي الكسار و مسرح جورج أبيض، وأضاء بموسيقي سيد درويش وروز اليوسف وأمينة رزق وأحمد علام وحسين رياض واستيفان روستي، إلي آخر العمالقة في دنيا الفن”.

يذكر “الشناوي” أن مسارح “عماد الدين” مساء 31 ديسمبر 1922 كانت تتغني بألحان وأغاني سيد درويش، وكان هو يمشي في الشارع يستمع إلي الناس وهم يبدون إعجابهم به، فيأخذه الزهو، لقد سبق زمنه في الكشف عن حقيقة الأغنية ووظيفتها، ومفهومها، والكشف عن مكانته وموهبته وعبقريته، أصبح صوت مصر، صوت عاطفتها ومرحها وألمها ونضالها، إنه صاحب كل هذه الألحان التي تعرب عن الحب والحزن والأمل والتمرد علي الظلم والاستغلال والاحتلال، إنه الرجل الذي انفعل بآلام الشيالين والسقاين، وغني في وقت واحد “ضيعت مستقبل حياتي” و”فلفل فلفل اهري يامهري” و”زوروني كل سنة مرة” و”بلادي بلادي لك حبي وفؤادي” و”قوم يامصري مصر ديما بتناديك” و”اللي الأوطان بتجمعهم عمر الأديان ماتفرقهم”.

كان سيد في الثلاثين من عمره عام 1922،وبتأكيد الشناوي:”بلغ قمة المجد والشهرة”، ورغم ذلك لايعترف معهد الموسيقي الشرقي بفنه، وكانت المواجهة بينهما حول ذلك، ويذكر الشناوي تفاصيلها، قائلا:”في شارع عماد الدين في ليلة رأس السنة 31 ديسمبر 1922 سار سيد درويش ومعه أصدقاؤه، زكريا أحمد وبديع خيري ويونس القاضي، وكان في طريقه إلي معهد الموسيقي، وسأله زكريا ماذا ستصنع هناك؟، رد: اتصل بي مصطفي بك رضا ورجاني أن أنضم إلي المعهد، قال الشيخ زكريا: مصطفي بك رجل طيب ولكن.

قال الشيخ سيد: ماذا تعني؟ رد الشيخ زكريا :أعضاء المعهد لايعترفون بموسيقاك، ومصطفي رضا أيضا لايعترف بها، صاح الشيخ سيد: إذن سأذهب إليهم وأتحداهم، وانطلق حتي وصل إلي المعهد الذي استقبله لأول مرة، ويصف الشناوي شكله وهيئته وقتئذ، قائلا :”شاب رأسه متوسط الحجم، شعره مبعثر نافر غزير خشن متمرد علي كل تسريحة، جبهته عريضة، وعيناه يمتزج فيها الحنان بالقسوة والشهوة، الأنف يبدو كما لوكان مضغوطا، والفم واسع رقيق مطبق، والأذنان مرهفتان، وقوامه فارعا طويلا، عريض المنكبين، رحب الصدر، نصفه الأعلى يميل إلي البدانة، وينتهي إلي بطن منتفخ، أما النصف الثاني فكان نحيلا، وساقاه اللتان تحملان جسده أشبه بساقي طائر فهما رفيعتان نحيلتان”.

يذكر”الشناوي”، أن سيد درويش دخل مكتب مصطفي بك رضا، وبعد أن استقبله ومن معه بالترحاب دار الحديث عن الموسيقي، بدأه مصطفي رضا، قائلا: “إذا كان التجديد هو تقليد الموسيقي الغربية فما أسهله؟، ثار الشيخ سيد ورد: “إنني لا أقلد أحدا، إنني أعرف مشاعري، أعبر عن انفعالي بأنغام لها وحدة وجود وهدف، فسأله مصطفي رضا:”هل سمعت شيئا من الموسيقي الغربية؟ قال الشيخ سيد: سمعت.

عزف مصطفي رضا لحنا علي القانون من أوبريت “كارمن” للموسيقار “بيزيه”، ثم سأل الشيخ سيد: ما الفرق بين هذه الموسيقي وبين موسيقاك؟، فقال الشيخ سيد: هذه موسيقي بيزيه، أما موسيقاي فهي موسيقي سيد درويش، فضحك مصطفي رضا، وفي هذه اللحظة كان الساعي يضع أمام الشيخ سيد فنجان قهوة، فتناول سيد الفنجان بيده ورمي به فوق المائدة احتجاجا علي سخرية مصطفي رضا به، ووقعت القهوة الساخنة علي ركبة فتي صغير يجلس بجوار مصطفي رضا فصرخ من الألم، وكان هذا الفتي هو محمد عبدالوهاب.

يذكر الشناوي:”غادر الشيخ سيد معهد الموسيقي الشرقي غاضبا، وجري خلفه محمد عبد الوهاب حتي لحق به، وأخذ يسترضيه، وأقبل مصطفي رضا وحسن أنور وبعض أصدقاء المعهد واعتذروا للشيخ سيد وعادوا به إلي المعهد ليناقشوه في هدوء، ولم تجد المناقشة، قال لهم: أنتم تعيشون في الماضي، وتنظرون إلي الوراء، وأنا أعيش عصري وأنظر إلي المستقبل ، وكانت الساعة أشرفت علي العاشرة مساء، فاستأذن الشيخ سيد وانصرف إلي مقهي بميدان الأوبرا، وكان الشيخ زكريا في انتظاره.

في المقهي قال الشيخ سيد لزكريا:”الموسيقي ليست موهبة وفقط، إنها موهبة وعلم، لابد أن أتعلم الموسيقي، سأسافر إلي إيطاليا العام القادم، سأتلقي فن الموسيقي في بلد الموسيقي وأساتذة الموسيقي”، ولم يحقق الشيخ سيد أمنيته ففي 15 سبتمبر 1923 توفي، وعمره 31 عاما فقط، ودفن في مقابر المنارة بالإسكندرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى